يتسم الحديث عن تجديد الخطاب الدينى بدرجة عالية من الاستسهال الفكرى والتهافت السياسى، حتى بدا أن تعبير “تجديد الخطاب الدينى” عنوانا لمشروع بلا مضمون حقيقى. ومن فرط الحديث الدعائى والإعلامى يتم تجاهل التحديات الفعلية المرتبطة بهذا التجديد المنشود. وفى هذا السياق نود إلقاء الضوء على عدد من الجوانب التى ربما تكشف أن مهمة تجديد الخطاب الدينى أكثر تعقيدا مما نتصور لأنها ترتبط بنظرتنا للموضوع وبالشروط العقائدية والسياسية والاجتماعية التى تؤثر فى انتاج وإعادة انتاج الخطابات الدينية.
من ناحية أولى، يجب ألا نتجاهل أن الخطاب الدينى ليس مجرد ظاهرة روحانية كما يحلو البعض أن يصوره، ولا يمكن إختزاله فى الصورة النمطية التى تتصدر المشهد عندما يتم الحديث عن التسامح وقبول الآخر وغيرها من التعبيرات التى تطفو على السطح. إن ما نراه على السطح قد يختلف فى كثير من الأحيان عما يمكن أن نجده فى العمق، حيث تقل كثافة الروحانية لصالح البعد الأهم وهو البعد العقائدى والذى يرتبط ارتباطا وثيقا ببناء هوية الجماعة الدينية، بما يعنيه ذلك من نزوع صلب نحو الحفاظ على تماسك الجماعة. وفى هذه الأعماق لن يكون التسامح بالأمر الهين ولن يكون الآخر بالضرورة موضوع للتواصل بقدر ما يكون موضوعا للتمايز. وفى الحقيقة فإن هذا الجانب العقائدى هو الأكثر كثافة، ويزداد كثافة عند مع تزايد رغبة رجال الدين أو السلطة السياسية فى تصدير ما يرونه تهديدا لهوية الجماعة، حتى ولو كان هذا التهديد سلميا مثل الدعوةلحرية الفكر والاعتقاد أو حرية التعبير.
الناحية الثانية، لا يمكن بأى حال الزعم القول أن الخطاب الدينى ثابت لا يتغير، بل على العكس فهو خطاب يتسم بالدينامية من حيث الانفتاح والإنغلاق والثبات والتحول. ولكن الأمر مرتبط دائما بالسياقات والظروف الاجتماعية والسياسية، فلا يوجد تجديد ذاتى للخطاب الدينى، ولكن ما يحدث من تحولات هو نتيجة استجابات وردود أفعال لمؤثرات اجتماعية وسياسية وعلمية. وكما أن هناك قابلية للانفتاح والتجاوب مع متغيرات العصر فى بعض التأويلات، هناك بالمقابل نزوع مستمر نحو الإنغلاق والجمود فى تأويلات أخرى. وغالبا ما ترتبط قوة الدفع نحو الإنفتاح بقوة دفع مضادة نحو الانغلاق، إلى حد تكفير مجددى الفكر الدينى من أنصار الإنغلاق والجمود.
الناحية الثالثة، فى محاولة لتقديم صورة معتدلة عن الخطاب الدينى، يبرز الحديث على أن الخطاب الدينى يجب أن يكون وسطيا فلا يتنازل عن ثوابته ولا يجنح إلى التطرف. وفى الحقيقة أنفكرة الوسطية الدينية ملتبسة، فلو افترضنا أن ما يسمى “التيار الوسطى” فى موقع وسط بين موقعين أحدهما متطرف دينيا، فكيف لنا أن نصف الموقع الآخر؟ الوصف الوحيد هو إما أن يكون الموقع الآخر على النقيض أى غير متطرف وفى هذه الحالة سيكون فى درجة أرقى من الموقع الوسطى ذاته، أو يكون متطرفا بطريقة أخرى (تطرف علمانى مثلا) وفى هذه الحالة فإن الفكرة الوسيطة لن تكون إلا تعبيرا عن حالة مركزية تستبعد كل ما عداها، وكأنها موقع فى منتصف دائرة محيطها متطرف بأشكال مختلفة دينيا وعلمانيا.
ومن ناحية رابعة، فى ضوء ما سبق فإنه من الصعب الحديث عن خطاب دينى بالفرد كما يحلو لخطاب الوسطية الدينية تقديم ذاته بوصفه الخطاب المركزى الأفضل، بل ببساطة يمكن الحديث عن خطابات دينية متعددة بعضها يناقض البعض، فبعضها يسعى للانفتاح وبعضها يرد بالإنغلاق. وكل خطاب من هذه الخطاب يسعى لإضفاء شرعية على ذاته باعتباره التعبير الوحيد والأوحد عن صحيح الدين، وبالتالى نزع الشرعية عن الخطابات الأخرى. وهكذا تتعدد الخطابات الدينية وتتصارع، وربما تصل حدة الصراع بين الخطاب الدينية ما يفوق صراعاتها مع الخطابات الأخرى ذات الطبيعة العلمانية.
باختصار فإن الحديث عن تجديد الخطاب الدينى يتجاهل حقيقة أن ما يوجد هو خطابات متعددة تتشكل وتتأثر بالعديد من المؤثرات الاجتماعية والسياسية والتاريخية، فهى خطابات لا تتجددأو حتى تنغلق بذاتها ولذاتهاولكن بفعل هذه المؤثرات، وبالتالى فإن الحديث عن تجديد الخطاب الدينى بدون إصلاحات للسياق الاجتماعى والسياسى لن يكون إلا محاولة لإنتاج خطابات شكلية مغلفة بهالة من كلام براق عن التسامح وقبول الآخر، أما فى العمق فسوف تبقى الخطابات الدينيةخاضعة لشروط المجتمع والسياسية بحلوها ومرها.